..نص أدبي محكوم”كرة القدم بين الشمس والظل”

شمس سورية – متابعة

في كتابه “كرة القدم بين الشمس والظل”، يعيد إدواردو غاليانو قراءة اللعبة الشهيرة بوصفها نصّاً أدبياً محكوماً بقيم “جمالية”، وكلما تحوّلت إلى صناعة، جرى استبعاد الجمال الذي يتولّد من متعة اللعب لمجرد اللعب.

وهو انتقد “تحوّلها إلى استعراض من أكثر الأعمال التجارية ربحاً، لا يجري تنظيمه من أجل اللعب بل من أجل منع اللعب.”

كما تحدث عن “استعباد اللاعب”، فكلما حقّق شهرة ونال مالاً أكثر ازداد استعباده، وحين يخسر بطولة “ينسى الجمهور كل مآثره ويحكم عليه بالتعاسة الأبدية، وتلاحقه اللعنة حتى نهاية حياته.

كلام غاليانو يحفّزنا على التفكّر في الملعب الخالي بعشبه الأخضر، وخطوطه البيضاء، كأنه صفحة بيضاء في كتاب لم يُكتب بعد.

حين يطلق الحكم صافرته، وتنطلق أرجل اللاعبين في ذلك الفضاء الخالي، تحدوهم رغبة عنيدة في اقتناص الكرة، وإيداعها شباك الخصم. نصبح إزاء نصّ روائي يسعى أبطاله لإنجاز المهمة الصعبة، ونيل المكافأة التي لا تقلّ أهمية عن الزواج من الأميرة في الأساطير القديمة.

بهذه المقاربة، تصبح المباراة رواية مصوّرة مليئة بالأبطال الرئيسيين، الذي تلاحقهم العدسات وأنظار الجمهور، إضافة إلى أبطال ثانويين لا ينتبه إليهم أحد.

صراع على العشب والورق

يحتدّ الصراع على العشب مثلما يحتدم على الورق. تصطدم إرادات على مسار الرغبة ذاتها. ثمّة لحظات فرح وبكاء وسقوط ونهوض وسكون وعزلة وغضب وفرص ضائعة وتكرار أخطاء.

تصبح الأشواط مثل الفصول، كما يحدث في أي رواية كلاسيكية، وفي النهاية يصفّق الجمهور للمنتصر وينسى آلام المهزوم.

بهذا المعنى تجلّى رونالدوا مثل بطل تراجيدي في دراما يونانية، أدويسيوس العائد في سفينته إلى وطنه، لكنه في كل لحظة يواجه تحدياً مخيفاً. وعليه أن ينقذ سفينة البرتغال ولا يسمح أن تتحطّم أمام صخرة سلوفينيا العنيدة.

يتصدّى الحارس مرّة لقذيفته الصاروخية، ومرّة أخرى تذهب هباء فوق العارضة. يهدر فرصة محقّقة، وبدلاً من تعويضها، يهدر ركلة جزاء سهلة أيضاً. عواصف وأمواج القدر تكاد تُفشل خططه كلها، في العودة المظفرة بوصفه بطل البرتغال المتوّج.

فإذا قبلنا ما ألمح إليه غاليانو، باعتبار كرم القدم تمثيلاً جمالياً، فكل مباراة هي نصّ روائي متفاوت الجودة وقوّة الحبكة، وبراعة النقلات الدرامية، أو “الريمونتادا”، بوصفها الثيمة الأدبية الخالدة، حين يرجع البطل المهزوم مُنتقماً ومنتصراً على خصومه.

ومثلما يكون “للريمونتادا” تأثيرها السحري في الملعب؛ فإنها تقلب مزاج الجمهور في المدرجات وأمام الشاشات من حال إلى حال. يبكي من فرح أولاً، ومن بكى أولاً يضحك في النهاية.

واستناداً إلى فلسفة أرسطو، يحدث “التطهير” أو التنفيس الوجداني، ينفّس الجمهور عبر السرد الكروي عن كل مشاعر الغضب والألم والانتقام والرغبة والخوف. وفي نهاية الأمر سيعود الفائز والخاسر إلى بيته في أمان، بعدما تطهّر الجمهور وأفرغ مشاعره السلبية. وأي غضب أو عنف مصاحب، هو خروج على النص وطبيعة الفرجة.

أبصار الملايين

وإذا كانت المباراة تكتب بوصفها رواية تتأرجح فصولها بين المتعة والملل، فضربة الجزاء هي قصيدة لها مفعول سرعة الطلقة. أخيلة مليئة بالانفعالات والتعبيرات المتناقضة. ثمة من سيرقص خلال ثانية واحدة، وبجواره من سيبكي. من يقفز فرحاً ومن يسقط أرضاً.

“ضربة الجزاء”، هي لحظة مليئة بالنبوءات ومكتفية بذاتها، يتوقف فيها الزمن وتشخص إليها أبصار الملايين. ولابد من التحفّز والانتباه إلى كل تفصيلة.

كل ضربة جزاء هي لحظة نصر وهزيمة، فرح ودموع، تسديدة ناجحة وضائعة في آن، باختلاف منظور الطرفين، وهكذا تُبنى القصيدة على سخرية المفارقة وهدم المعنى وبنائه.

حركات الأجساد والأرجل، وإمالة الرأس، ونظرات التحدي بين اللاعب والحارس. رفع البصر إلى السماء طلباً للعون، وخفض النظر نحو الأرض كي لا يكتشفها الحارس.

ذات مرّة كتب بيتر هاندكه رواية شهيرة بعنوان “خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء”. كما تحدث الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي عما يسميه “القصيدة الخرساء”، باعتبارها تجربة انفعالية تثير نشوة عميقة، لا ترتبط بالضرورة بالمعنى المستقرّ الجاهز، وكيف تنهض تلك القصيدة على المجازات والتلاعب باللغة.

كل ذلك يتحقّق بكثافة ودرامية قصيدة “ضربة الجزاء”. الفارق الوحيد أن القصيدة هي تلاعب تخييلي باللغة، وضربة الجزاء تلاعب بصري بالصور.

قفلة شعرية

ثمّة من أصرّ أن رونالدو “بطل أسطوري” حتى لو أخفق، ومن سخر ووصفه بالمتباكي. من بكوا لبكائه ومن جلدوه بسياط الكلام.

أياً كان انطباع الجمهور، فلكل ضربة جزاء “قفلة شعرية” تبقى عالقة في الأذهان. قد ينسى كثيرون براعة الحارس يان أوبلاك ورشاقة التصدّي، لكن التاريخ لن ينسى أبداً دموع رونالدو “الدون.”

سوف تضاف تلك القفلة الشعرية العاطفية إلى عشرات القفلات الخالدة لضربات الجزاء، بوصفها قصائد مُهدرة على العشب الأخضر.

من ينسى كيف سدّد بلاتيني كرته فوق العارضة، لتطير معها أحلام فرنسا في الفوز بكأس العالم عام ،1986 وتطلّب ذلك من الفرنسيين الانتظار اثني عشر عاماً من أجل التتويج.

لا أميل إلى قفلة رونالدو الميلودرامية التي تستجدي التعاطف، لأنها لا تليق بقائد السفينة الذي يجب عليه أن يحفّز زملاؤه، ولا يرمي قفازه قبل إطلاق صافرة النهاية.

أفضل عليها تلك القفلة الشعرية لروبرت باجيو، الذي بفضله وصلت بلاده إلى نهائي كأس العالم أمام البرازيل، ولكي تبقى آمال إيطاليا في الفوز، كان عليه ألا يفشل، لكنه ركل الكرة فوق العارضة.

كان يقترب مرتبكاً كأن قدميه لا تقويان على حمله. وبعدما طارت الكرة نحو السماء، أحنى رأسه قليلاً كأنه يعتذر للعالم أجمع، ثم أمسك أنفه بيده وضمّ كتفيه على طريقة المهزومين.

تحوّل لثوانٍ إلى تمثال، أو بحسب التعبير الذي ارتبط به إلى الأبد “مات باجيو واقفاً”. تناسى كثيرون تاريخه الأسطوري، واختزلوه في وقفة المهزوم التي مازالت تثير دموع ملايين المتعاطفين. ومازالت تثير غضب الملايين، ومنهم من كتب على جدران إيطاليا وقتها: “الرب سوف يغفر للجميع إلا باجيو”.

شاهد أيضاً

“صباغ” يبحث مع “لافروف” في مينسك تطورات الأوضاع في المنطقة وضرورة وقف العدوان الإسرائيلي على شعوبها

شمس سورية – متابعة في إطار مشاركتهما في المؤتمر الدولي الثاني للأمن الأوراسي في العاصمة …